التكرار المستمر لحرق القرآن الكريم والحاجة إلى التدخل الحازم والعقلاني لمنظمة التعاون الإسلامي

المضحك في حكاية الحرق المستمر للقرآن الكريم، وأمام عدسات الكاميرا، وانتشارها كالنار في الهشيم على مستوى محطات الأخبار العالمية، ووسائل التواصل الاجتماعي، هو الجهل العميق والأعمى لثقافة الآخر، فالقرآن عند المسلمين كتاب محفوظ في الصدور والقلوب عبر الإيمان، فلا يمكن ومن المستحيل اقتلاعه وزعزعته بحادث عابر.

والمؤلم في الحكاية العبثية، هو أن الشعوب الاسكندنافية تحقق أعلى المؤشرات في الحياة السعيدة والمرفهة، وحقوق الانسان، والبيئة، وكل معايير الحضارة الراقية والسامية، ومع ذلك نجد هذا الاستثناء المتمثل في اليمين الشعبوي العنصري الحاقد والجاهل، هنا يجب طرح السؤال العميق، هل هناك خلل على مستوى المنظومة التعليمية والمنظومة القانونية والتشريعية، أم غياب للتواصل الإيجابي، والفهم المتبادل بين الديانات والثقافات والأعراق المشكلة للأمم الاسكندنافية وأمم أوروبا الغربية مع الأعراق والديانات والثقافات الأخرى؟

فصاحب الفعل الجاهل المدان رسميا وشعبيا وعلى مستوى العالم، والذي يتوخى الشهرة من فعله، فلن اذكر اسمه بتاتا في هاته المقالة، سيرا على نهج رئيسة الوزراء نيوزيلاندا السابقة، السيدة العظيمة “جاسيندا آردرن” في تعاملها مع منفذ مذبحة (christ church) بحيث أكدت خلال جلسة للبرلمان النيوزلندي المنعقد بتاريخ 19/03/2019 ” أن من بين أهدافه اكتساب شهرة وسوف نحرمه من ذلك”(1).

فالجاهل المدان المحامي مهنيا، هاته المهنة السامية التي تدافع عن الضعفاء والمظلومين، يستغل خبرته القانونية للتحايل على قوانين الدول، يكرر فعلته مند سنة 2017، وسبق أن قام بنفس السلوك الغبي والوقح يوم 22 مارس 2019 بحرق نسخة من المصحف الشريف أمام حشد من المصلين خلال أداء صلاة الجمعة أمام مبنى البرلمان الدانماركي، للتعبير عن تنديدهم بمجزرة المسجدين في نيوزيلاندا، وذلك بعد أن حصلوا على التصاريح القانونية اللازمة (2)، وفي أبريل من سنة 2022 أحرق نسخة من القرآن في مدينة “لينشوبينغ” جنوب السويد وحاول إعادة الكرة في مايو من العام نفسه، رغم رفض الشرطة منحه الترخيص.

هذا الفعل المتكرر بشكل عبثي وأعمى وبدون مراجعة للأخطاء ومن غير الاستماع لآلام الآخرين، يعد من السمات الأولية ” لمتلازمة آي” لجراح الأعصاب ” إيزاك فرايد” من جامعة كولومبيا، لوس انجلس، فالمتلازمة هي مجموعة من الأعراض الحيوية، التي يشكل بعضها مع بعض صورة طبية و “أي” تعبر عن الشر EVIL في متلازمة “اي”، فالتكرار يعني ان العدائية والكراهية تتكرران بشكل قهري”(3)، فالكراهية مرفوضة وفق المادة الأولى من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان the universal declaration of human rights (U.D.H.R) ” وعليهم أن يعاملوا بعضهم بعضا بروح الإخاء”(4)
نهضت الحرية الدينية وفقا للنهج الاصلاحي في اعقاب الحروب الضروس، التي دارت بشأن الدين، ورجحتها حجج قوية من قبل مفكرين، من مثل جون لوك، وباروخ سبينوزا، وبييربارل، وفولتير، حيث رد هؤلاء المنظرون والفلاسفة بتعزيز مفاهيم ثورية عن التسامح والحرية الدينية، وبعد الثورتين الامريكية والفرنسية ، اصبحت افكارهم الليبرالية جزءا لا يتجزأ من المؤسسات السياسية في الغرب(5).

فالأحزاب اليمينية والراديكالية الاوروبية والغربية ليست مدانة ومشبوهة وفق القوانين الرسمية، لان تأسيسها يدخل في اطار حرية التعبير « freedom of speech » فكل انشطة هاته الأحزاب موجهة الى اطراف اخرى من اعراق وديانات اخرى، على سبيل المثال منع اقامة المساجد، ورفع الاذان او شعار اللاءات الثلاث no islam , no sharia, no halal،(6).

صرح الجاهل المدان بعد حرقه للقرآن الكريم يوم السبت 21 يناير 2020 قرب السفارة التركية في منطقة “شارهولمن” التي تقطنها أغلبية الجاليات العربية بالعاصمة السويدية ستوكهولم ” إذا لم نكن مقتنعين بأهمية حرية التعبير، فيجب أن نعيش في مكان آخر” وفي أي مكان للعيش في العالم، هناك واجبات ومسؤوليات لأننا لسنا في مجتمع الحيوان وهو منظم كذلك وفق التوازن الطبيعي، ” هذه الحريات تتضمن واجبات ومسؤوليات، لذا يجوز اخضاعها لشكليات اجرائية، وشروط، وقيود، وعقوبات محددة في القانون حسبما تقتضيه الضرورة في مجتمع ديموقراطي، لصالح الأمن القومي، وأمن الجماهير وحفظ النظام، ومنع الجريمة، وحماية الصحة والآداب، واحترام حقوق الآخرين”

وفقا للفقرة الثانية من المادة العاشرة من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان(7) european convention on human rights (E.C.H.R) “وعلى كل فرد واجبات ازاء الجماعة، التي فيها وحدها يمكن ان تنمو شخصيته النمو الحر الكامل، ولا يخضع اي فرد، في ممارسة حقوقه وحرياته، الا للقيود التي يقررها القانون مستهدفا منها حصرا، ضمان الاعتراف الواجب بحقوق وحرية الاخرين واحترامها، ولا يجوز لأحد ان يستخدم أيا من الحقوق التي تكفلها الاتفاقية لإلغاء أو لتقييد حقوق الآخرين وفقا للمادة 17 من نفس الاتفاقية ووفقا للفقرة الأولى والثانية والثالثة من المادة التاسعة والعشرين من الاعلان العالمي لحقوق الإنسان(8) حيث لا يجوز القيام بأي نشاط او باي فعل يهدف الى هدم اي من الحقوق والحريات المنصوص عليها فيه وفقا للمادة الثلاثية من الإعلان نفسه(9) ويمنع بالقانون “اي دعوة الى الكراهية القومية او العنصرية او الدينية تشكل تحريضا على التمييز او العداوة او العنف، ويكون الحق في التجمع السلمي ولا يجوز ان يفرض قيود على هذا الحق الا عند حماية حقوق الاخرين وحرياتهم وفقا للمادة العشرين والمادة الواحدة والعشرين من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية the international covenant on civil and policial rights ( I.C.C.P.P) (10).

فالحكومات التي يتم على أرضها هاته الافعال المرفوضة من جميع المواثيق والتشريعات الدولية، وجميع الديانات، تتحمل كامل المسؤولية في حماية حقوق الاخرين وحرياتهم، فالجالية المسلمة اصبحت تشكل طرف من المجتمعات الغربية سواء المجنسين بالجنسيات الاوروبية او الجاليات التي تعيش هناك ( يقيم بالسويد أكثر من نصف مليون مسلم)، وتنبهت الجالية المسلمة هذه المرة، فاتخذت موقع التجاهل أمام هذا الاستفزاز(11)، وعلى الجاليات المسلمة ان تناضل من اجل اجبار البرلمانات الاوروبية على اصدار قانون يجرم فيه الاساءة للأديان والمعتقدات الدينية والعرقية، واعتبار حرية التعبير في نطاق ان لا تمس حرية الاخرين ومعتقداتهم، وتفعيل المادة السادسة والعشرين من الاعلان العالمي لحقوق الانسان “ان يعزز التعليم التفاهم والتسامح والصداقة بين جميع الأمم وجميع الفئات العنصرية او الدينية”(12)، ونذكر في هذا الصدد بداية استجابة بعض البلدان الاوربية بحيث اعتبر مجلس الشرطة الوطنية لدولة فنلندا ان حرق الكتب المقدسة “جريمة يعاقب عليها” وان القانون الفنلندي يحمي “السلام الديني” ويمكنه أن يعاقب على انتهاكه(13)، كما قامت المفوضية الأوربية بتعيين “ماريون لاليس” كمنسقة جديدة لمناهضة الكراهية ضد المسلمين ستعمل مع الدول الأعضاء في الاتحاد والمؤسسات الأوربية والمجتمع المدني والوسط الأكاديمي لتعزيز استجابة السياسات في مجال مناهضة الكراهية ضد المسلمين(14).
فالعملية تمت امام السفارة التركية وهناك خطأ في العنوان فدولة تركيا جزء من ملياري مسلم في العالم، وإذا كان يقدم أجندة سياسية للضغط على تركيا من أجل موافقتها على انضمام السويد الى الحلف الاطلسي، او من اجل الهاء الشعوب وتشتيت انتباهها حول قضاياها المصيرية، فعلى ممثلي الامة الاسلامية وقادتها الوقوف بحزم في مواجهة هاته الحملة التضليلية والعنصرية بالانعقاد الطارئ على مستوى القادة لمؤتمر استثنائي لمنظمة التعاون الاسلامي، وتحتضنه دولة اندونيسيا كأكبر دولة اسلامية، واذا لم تستطع على هذا الاحتضان فعلى المملكة العربية السعودية احتضانه للخروج بموقف موحد وخطوات عملية على جميع المستويات ومنها الاستفزازات المستمرة في المسجد الاقصى بفلسطين، وقد احتضنت الجزائر قمة لبرلمانات الدول الأعضاء بمنظمة التعاون الإسلامي والتي تضم في عضويتها 57 دولة إسلامية يومي الأحد والإثنين 29 و30 يناير 2023، ودعت هاته القمة في بيانها من خلال “إعلان الجزائر” إلى اتخاذ الإجراءات الضرورية للرد على الاستفزازات، والحرق المبرمج للمصحف جريمة نكراء واعتداء صارخ على أقدس مقدسات المسلمين ومشاعرهم تحت مسمى حرية التعبير وأن هذه الممارسات تتنافى مع جميع القيم والمبادئ الإنسانية والأخلاقية. (15)
أما بخصوص الدعوات الى مقاطعة بضائع وشركات الدول الاسكندنافية وفرنسا وهولندا، ومنها دعوات لمقاطعة المنتجات السويدية عبر وسوم عديدة أبرزها: “غضبة مليارية على حرق المصحف” وطرد السفير السويدي.(16)، ودعوة الأزهر الشريف بمصر بحيث طالب الشعوب العربية بمقاطعة جميع المنتجات الهولندية والسويدية بكافة أنواعها نصرة لكتاب الله ولقرآننا الكريم، كتاب المسلمين المقدس، وردا مناسبا لحكومتي هاتين الدولتين في إساءتهما إلى ملياري مسلم وشدد على ضرورة التزام الشعوب العربية الإسلامية بهذه المقاطعة وتعريف أطفالهم وشبابهم ونسائهم بها، وأن يعلموا أن أي عزوف أو تقصير في هذا الأمر هو تخاذل صريح عن نصرة الدين ارتضاه الله لهم(17)، فيجب دراسة هذا المقترح بشكل عقلاني لأن هاته الشركات يعمل بها الاف العمال وتعيش منها الاف الاسر وكما يقول المثل المغربي ( ماتهرق الما حتى توجد اخرين) بمعنى ايجاد البديل الحقيقي للعمال والاسر والتعويض عن فقدان الشغل وبعد ذلك يمكن الكلام عن المقاطعة، فلا يجب اصدار هاته الكلمة في الهواء بدون دراسة اثارها على الواقع.
أما مسؤولية الجالية المسلمة في البلدان الاوروبية تتمثل ان تخطو خطوات سياسية ، قضائية، قانونية، ثقافية وإعلامية، وان تقيم دعاوي قضائية ضد الجهات المرخصة للفعل العنصري، ومطالبة هاته الدول بحظر الاحزاب العنصرية وكل الاحزاب والجمعيات وهيئات المجتمع المدني التي تحرض على التمييز والعداوة والعنف والكراهية، مع ضمان حقوق كل الاقليات المشكلة للمجتمعات الاوروبية، والاتصال بالنواب وممثلي الشعب ومنظمات حقوق الانسان وكل القوى المؤمنة بالديموقراطية والتعايش والتسامح، وفي نفس الوقت تنظيم مظاهرات سلمية وحملات توعوية بدون حرق وتخريب للممتلكات العامة والخاصة لأن هذا السلوك ينفر ويبعد كل المتضامنين والداعمين على مستوى الشعوب الأوروبية.
فصاحب الفعل الجاهل المدان أصبح مذعورا وخائفا ومهددا في حياته دخل في حرب مفتوحة مع ملياري مسلم بدون تقديم اعتذار والالتزام لعدم تكرار فعله ولن يسمح له بزيارة أو سياحة أي بلد مسلم، وحتى تحركاته داخل القارة الأوربية ستكون بحراسة وتتبع أمني، خوفا على حياته ووجوده من الجالية المسلمة بأوروبا، وأكد على ذلك بنفسه في مقابلة مع صحيفة EXPRESSEN بحيث قال “بأنه لم يكن يتوقع كل ذلك الغضب والاحتجاجات الحاشدة، فأردت تسجيل موقف تجاه تركيا، لكن الامور سارت بشكل مختلف لست نادما، لقد فعلت ذلك لأسباب سياسية بحتة، أشعر بالحزن لأن الكثير من الناس يهددوني بالقتل”.
فمهما هدموا وأحرقوا كل المآذن هل سيتوقف صوت الآذان وتتوقف الصلاة؟؟؟ لقد أحرق وأتلف الماغول كل كتب المعرفة ببغداد هل توقفت مسيرة العلم؟
إنهم واهمون ووهمهم إلى زوال، ومهما قطفوا واقتلعوا واحرقوا الزهور والورود لن يستطيعوا ايقاف زحف الربيع، فالسلام والتعارف بين الشعوب بتسامح ومحبة أمل وطموح كل سكان كوكب الأرض.

 

 

الخراز عبد المنعم / تطوان بوست

Loading...